كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ يَكُونُ الْمُرَادُ بِالنَّاسِ الَّذِينَ قَالُوا لِلْمُؤْمِنِينَ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ: نُعَيْمَ بْنَ مَسْعُودٍ وَمَنْ وَافَقَهُ فَأَذَاعَ قَوْلَهُ، وَعَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُمْ أَرْبَعَةٌ، وَرُوِيَ أَنَّ رَكْبًا مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ مَرُّوا بِأَبِي سُفْيَانَ فَدَسَّهُمْ إِلَى الْمُسْلِمِينَ لِيُجَبِّنُوهُمْ وَضَمِنَ لَهُمْ عَلَيْهِ جَعْلًا. وَعَزَاهُ الرَّازِيُّ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، وَذَكَرَ قَوْلًا ثَالِثًا عَنِ السُّدِّيِّ أَنَّ النَّاسَ الَّذِينَ قَالُوا هُمُ الْمُنَافِقُونَ، وَأَمَّا النَّاسُ الَّذِينَ جَمَعُوا الْجُمُوعَ لِقِتَالِ الْمُسْلِمِينَ فَهُمْ أَبُو سُفْيَانَ وَأَعْوَانُهُ قَوْلًا وَاحِدًا. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: يَجُوزُ أن يكون نُعَيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ قَالَ ذَلِكَ وَأن يكون قَالَهُ رَكْبُ عَبْدِ الْقَيْسِ وَتَحَدَّثَ بِهِ الْمُنَافِقُونَ؛ فَإِنَّ الأمر الْكَبِيرَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَتَحَدَّثَ بِهِ النَّاسُ وَيَذْهَبُونَ فِيهِ مَعَ أَهْوَائِهِمْ. وَقَالَ أيضا: إِنَّ السَّبْعِينَ الَّذِينَ خَرَجُوا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى بَدْرٍ الصُّغْرَى أَوْ (بَدْرٍ الْمَوْعِدِ) هُمُ الَّذِينَ خَرَجُوا مَعَهُ إِلَى حَمْرَاءِ الْأَسَدِ، فَتَصْدُقُ الْآيَةُ عَلَى الْقِصَّتَيْنِ وَتَكُونُ الْآيَاتُ مُتَأَخِّرَةَ النُّزُولِ عَمَّا قَبْلَهَا. وَذَكَرَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي زَادِ الْمَعَادِ وَالْحَلَبِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ إِلَى بَدْرٍ الْمَوْعِدِ فِي أَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَيَجْمَعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ بِأن يكون خَرَجَ أَوَّلًا بِالسَّبْعِينَ ثُمَّ تَبِعَهُ الْبَاقُونَ.
فَزَادَهُمْ إِيمَانًا أَيْ فَزَادَهُمْ قَوْلُ النَّاسِ لَهُمْ إِيمَانًا بِاللهِ وَثِقَةً بِهِ مِنْ حَيْثُ خَشُوهُ وَلَمْ يَخْشَوُا النَّاسَ الَّذِينَ خُوِّفُوا مِنْهُمْ بأنهمْ جَمَعُوا لَهُمُ الْجُمُوعَ وَاعْتَمَدُوا عَلَى نَصْرِهِ وَمَعُونَتِهِ وَإِنْ قَلَّ عَدَدُهُمْ وَضَعُفَ جَلَدُهُمْ، فَإِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْقَوِيُّ وَذَلِكَ مِنْ شَأْنِ الْمُؤْمِنِينَ كَمَا جَاءَ فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الْآيَتَيْنِ التَّالِيَتَيْنِ، وَكَانَ مِنْ قُوَّةِ إِيمَانِهِمْ وَزِيَادَتِهِ أَنْ أَقْدَمُوا- وَهُمْ عَدَدٌ قَلِيلٌ قَدْ أُثْخِنُوا بِالْجِرَاحِ- عَلَى مُحَارَبَةِ الْجَيْشِ الْكَبِيرِ، فَالزِّيَادَةُ كَانَتْ فِي الْإِذْعَانِ النَّفْسِيِّ، وَالشُّعُورِ الْقَلْبِيِّ، وَتَبِعَهَا الزِّيَادَةُ فِي الْعَمَلِ، بَعْدَ ذَلِكَ الْقَوْلِ الدَّالِّ عَلَى مَا انْطَوَتْ عَلَيْهِ النَّفْسُ مِنَ الْيَقِينِ بِوَعْدِ اللهِ وَوَعِيدِهِ، وَالشُّعُورِ بِعِزَّتِهِ وَسُلْطَانِهِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ حَوْلٌ وَلَا قُوَّةٌ عَلَى تِلْكَ الِاسْتِجَابَةِ وَالْإِقْدَامِ عَلَى مَا كَادَ يَكُونُ وَرَاءَ حُدُودِ الْإِمْكَانِ، فَمَنْ يَقُولُ إِنَّ الإيمان النَّفْسِيَّ لَا يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ فَقَدْ نَظَرَ إِلَى الِاصْطِلَاحَاتِ اللَّفْظِيَّةِ لَا إِلَى نَفْسِهِ فِي إِدْرَاكِهَا وَشُعُورِهَا وَقُوَّتِهَا فِي الْإِذْعَانِ وَضَعْفِهَا.
قَالُوا: إِنَّ التَّصْدِيقَ لَا يُعْتَدُّ بِهِ وَيَكُونُ إِيمَانًا صَحِيحًا إِلَّا إِذَا وَصَلَ إِلَى دَرَجَةِ الْيَقِينِ، فَإِذَا نَزَلَ عَنْ مَرْتَبَةِ الْيَقِينِ كَانَ ظَنًّا أَوْ شَكًّا. وَلَيْسَ الظَّنُّ إِيمَانًا يُعْتَدُّ بِهِ، وَالشَّكُّ كُفْرٌ صَرِيحٌ وَنَقُولُ: إِنَّ الظَّنَّ الَّذِي لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا وَلَا يُعَدُّ إِيمَانًا صَحِيحًا هُوَ مَا لُوحِظَ فِيهِ جَوَازُ وُقُوعِ الطَّرَفِ الْمُخَالِفِ، أَيْ مَا لُوحِظَ فِيهِ طَرَفَانِ مُتَقَابِلَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذَا لِأَمْرٍ ثَابِتٍ وَثَانِيهِمَا: أنه يَحْتَمِلُ احْتِمَالًا ضَعِيفًا أَلَّا يَكُونَ ثَابِتًا، فَإِنْ جَزَمَ الذِّهْنُ بأنه ثَابِتٌ فَلَمْ يُتَصَوَّرِ الطَّرَفُ الْمُخَالِفُ- وَهُوَ عَدَمُ الثُّبُوتِ- كَانَ جَزْمُهُ هَذَا إِيمَانًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ نَاشِئًا عَنْ بُرْهَانٍ مُؤَلَّفٍ مِنَ الْمُقَدِّمَاتِ الْيَقِينِيَّةِ فِي عُرْفِ عُلَمَاءِ الْمَنْطِقِ عَلَى طَرِيقَتِهِمْ أَوْ غَيْرِ طَرِيقَتِهِمْ، وَلَا مُلَاحَظًا فِيهِ اسْتِحَالَةُ الطَّرَفِ الْمُخَالِفِ. وَأَكْثَرُ الْمُؤْمِنِينَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَالْمُؤْمِنِينَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ فِي هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ مِنَ الإيمان وَيَصِحُّ أَنْ يُطْلَقَ عَلَى أَهْلِهَا لَفْظُ الْمُوقِنِينَ.
وَلَوْ كَانَ الإيمان لا يَصِحُّ إِلَّا بِبُرْهَانٍ مَنْطِقِيٍّ عَلَى إِثْبَاتِ قَضَايَاهُ وَاسْتِحَالَةِ ضِدِّهَا لَمَا تُصُوِّرَ أَنْ يَرْتَدَّ أَحَدٌ عَنِ الإسلام بَعْدَ دُخُولِهِ فِيهِ، لِأَنَّ الْيَقِينَ بِهَذَا الْمَعْنَى لَا يُمْكِنُ الرُّجُوعُ عَنْهُ وَإِنْ أَمْكَنَ مُكَابَرَتُهُ وَمُجَاحَدَتُهُ بِاللِّسَانِ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الرُّجُوعُ عَنِ الْحَقِّ بَعْدَ الْيَقِينِ فِيهِ كَالْيَقِينِ فِي الْعِلْمِ كِلَاهُمَا قَلِيلٌ فِي النَّاسِ يَعْنِي بِذَلِكَ الْيَقِينَ الْمَنْطِقِيَّ الَّذِي تَنْتَهِي مُقَدِّمَاتُهُ إِلَى الْبَدِيهِيَّاتِ. وَلَكِنَّ الرِّدَّةَ ثَابِتَةٌ نَقْلًا وَوُقُوعًا. قال تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ} [16: 106] وَقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا} [4: 137].
هَذَا وَإِنَّ لِلْيَقِينِ مَرَاتِبَ وَدَرَجَاتٍ يَعْلُو بَعْضُهَا بَعْضًا وَحَصَرَهَا بَعْضُهُمْ فِي ثَلَاثٍ: عِلْمِ الْيَقِينِ، وَحَقِّ الْيَقِينِ، وَعَيْنِ الْيَقِينِ. فَالِارْتِقَاءُ مِنْ دَرَجَةٍ إِلَى أُخْرَى زِيَادَةٌ فِي نَفْسِ الْيَقِينِ. وَيُرْوَى عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أنه قَالَ: لَوْ كُشِفَ الْغِطَاءُ مَا ازْدَدْتُ يَقِينًا وَهَذَا الْقَوْلُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْيَقِينَ يَقْبَلُ الزِّيَادَةَ فِي نَفْسِهِ، وَمَنْ أَيْقَنَ بِأَنَّ فُلَانًا طَبِيبٌ مَاهِرٌ لِأَنَّهُ رَآهُ نَجَحَ فِي مُعَالَجَةِ بَعْضِ الْمَرْضَى يَضْعُفُ يَقِينُهُ إِذَا رَآهُ خَابَ فِي مُعَالَجَةِ آخَرِينَ، وَيَزْدَادُ إِذَا رَآهُ يَنْجَحُ آوِنَةً بَعْدَ أُخْرَى- وَلَاسِيَّمَا- فِي مُعَالَجَةِ الأمراضِ الْبَاطِنِيَّةِ الَّتِي يَعْسُرُ تَشْخِيصُهَا.
ثُمَّ إِنَّ فَائِدَةَ الإيمان إِنَّمَا تَكُونُ بِإِذْعَانِ النَّفْسِ الَّذِي يُحَرِّكُ فِيهَا الْخَوْفَ وَالرَّجَاءَ وَغَيْرَهُمَا مِنْ وِجْدَانَاتِ الدِّينِ الَّتِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا تَرْكُ الْمُنْكَرِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَفِعْلِ الْمَعْرُوفِ الْمَأْمُورِ بِهِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِلدِّينِ فَائِدَةٌ فِي إِصْلَاحِ حَالِ الْبَشَرِ. وَهَلْ يَقُولُ عَاقِلٌ إِنَّ الْإِذْعَانَ وَالْخَوْفَ وَالرَّجَاءَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي لَا تَقْبَلُ الزِّيَادَةَ وَالنُّقْصَانَ؟ أَمَا أنه لَوْ كَانَ إِذْعَانُ جَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ فِي دَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ لَتَسَاوَوْا فِي الْأَعْمَالِ وَلَكِنَّهُمْ مُتَفَاوِتُونَ فِيهَا تَفَاوُتًا عَظِيمًا كَمَا هُوَ ثَابِتٌ بِالْمُشَاهَدَةِ، فَثَبَتَ أَنَّهُمْ مُتَفَاوِتُونَ فِي مَنْشَئِهَا مِنَ النَّفْسِ وَهُوَ الْإِذْعَانُ الَّذِي يَقْوَى وَيَضْعُفُ بِالتَّبَعِ لِلْإِيمَانِ، وَهَذَا عَيْنُ قَبُولِ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ.
وَمِنْ هُنَا نَفْهَمُ مَعْنَى إِدْخَالِ السَّلَفِ الصَّالِحِ الْأَعْمَالَ فِي مَفْهُومِ الإيمان، فَإِنَّ كُلَّ اعْتِقَادٍ لَهُ أَثَرٌ فِي النَّفْسِ يَتْبَعُهُ عَمَلٌ مِنَ الْأَعْمَالِ، فَهِيَ سِلْسِلَةٌ مُؤَلَّفَةٌ مِنْ ثَلَاثِ حَلَقَاتٍ يُحَرِّكُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَالْإِمَامُ الْغَزَّالِيُّ يُعَبِّرُ عَنْهَا بِالْعِلْمِ وَالْحَالِ وَالْعَمَلِ، فَيَقُولُ: إِنَّ الْعِلْمَ بِأَنَّ كَذَا يُرْضِي اللهَ تعالى أَوْ كَذَا يُسْخِطُهُ مَثَلًا يُحْدِثُ فِي النَّفْسِ حَالًا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا فِعْلُ مَا يُرْضِيهِ وَيَقْتَضِي مَثُوبَتَهُ، وَتَرْكُ مَا يُسْخِطُهُ وَيَقْتَضِي عُقُوبَتَهُ. وَيَقُولُ: إِنَّ تَرَتُّبَ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ وَاجِبٌ. وَعِبَارَتُهُ: إِنَّ الْعِلْمَ يُوجِبُ الْحَالَ وَالْحَالُ يُوجِبُ الْعَمَلَ. فَارْجِعْ إِلَيْهِ فِي كِتَابِ التَّوْبَةِ وَغَيْرِهِ مِنْ كُتُبِ الْمُجَلَّدِ الرَّابِعِ مِنَ الْإِحْيَاءِ.
وَأَمَّا زِيَادَةُ الإيمان بِزِيَادَةِ مُتَعَلِّقَاتِهِ وَهِيَ الْمَسَائِلُ الَّتِي يُؤْمِنُ بِهَا الْمُؤْمِنُ الَّتِي يُعَبَّرُ عَنْهَا بِشُعَبِ الإيمان فَهِيَ ظَاهِرَةٌ لَا تَحْتَاجُ فِي بَيَانِهَا إِلَى شَرْحٍ طَوِيلٍ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الْمَسَائِلَ لَا يُمْكِنُ أَنْ تُتَلَقَّى إِلَّا بِالتَّدْرِيجِ فَكُلَّمَا تَلَقَّى الْمُؤْمِنُ مَسْأَلَةً مِنْهَا ازْدَادَ إِيمَانًا. وَلَيْسَ هَذَا خَاصًّا بِالْكَافِرِ الَّذِي يَدْخُلُ فِي الإسلام، فَإِنَّ النَّاشِئَ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ مِثْلُهُ فِي ذَلِكَ. وَلَيْسَتِ الْمَسَائِلُ الَّتِي تَزِيدُ الْإِنْسَانَ مَعْرِفَتُهَا إِيمَانًا مَحْصُورَةً فِي النُّصُوصِ الَّتِي جَاءَ بِهَا الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فَإِنَّ الْقُرْآنَ هَدَانَا إِلَى التَّفْكِيرِ وَالنَّظَرِ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لِنَزْدَادَ إِيمَانًا وَنَعْتَبِرَ وَنَسْتَفِيدَ، وَذَلِكَ يَفْتَحُ لَنَا أَبْوَابًا مِنَ الْعِلْمِ بِاللهِ وَسُنَنِهِ لَا نِهَايَةَ لَهَا. فَكُلُّ مَا نَهْتَدِي إِلَيْهِ فِي بَحْثِنَا وَنَظَرِنَا مِنْ أَسْرَارِ الْكَائِنَاتِ وَسُنَنِ اللهِ تعالى فِي الْمَخْلُوقَاتِ فَإِنَّا نَزْدَادُ بِهِ عِلْمًا بِاللهِ وَإِيمَانًا بِقُدْرَتِهِ وَحِكْمَتِهِ الْبَالِغَةِ، وَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ لِأَقْوَى النَّاسِ إِيمَانًا وَأَوْسَعِهِمْ عِلْمًا بِهِ وَبِسُنَّتِهِ: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [20: 114] وَكَذَلِكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ تَزِيدُ مَنْ يَتَلَقَّاهَا إِيمَانًا كُلَّمَا تَلَقَّى شَيْئًا مِنْهَا، وَقَدْ يَتَدَبَّرُهَا الْمُؤْمِنُ بَعْدَ الْعِلْمِ بِهَا بِأَيَّامٍ أَوْ سِنِينَ، فَيَفْهَمُ مِنْهَا مَا لَمْ يَكُنْ يَفْهَمُ فَيَزْدَادُ إِيمَانًا. قال تعالى: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ} [9: 124، 125] وَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ حِينَ سُئِلَ هَلْ خَصَّهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَيْءٍ؟: لَا إِلَّا أَنْ يُؤْتِيَ اللهُ عَبْدًا فَهْمًا فِي الْقُرْآنِ.
وَلَيْسَ هَذَا النَّوْعُ مِنْ زِيَادَةِ الإيمان هُوَ الْمُرَادَ مِنَ الْآيَةِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدْرِ تَفْسِيرِهَا، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِهِ النَّوْعُ الْأَوَّلُ وَهُوَ الزِّيَادَةُ فِي أَصْلِ الْيَقِينِ وَالْإِذْعَانِ الْمُؤَثِّرِ فِي الْوِجْدَانِ، فَهِيَ مِنْ قَبِيلِ قوله تعالى: {وَلَمَّا رأى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [33: 22] وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ أَيْ وَقَالُوا مُعَبِّرِينَ عَنْ إِيمَانِهِمْ حَسْبُنَا اللهُ أَيْ هُوَ كَافِينَا مَا يُهِمُّنَا مَنْ أَمْرِ الَّذِينَ جَمَعُوا لَنَا، وَحَسْبُنَا بِمَعْنَى مُحْسِبُنَا، فَهُوَ مِنْ أَحْسَبَهُ إِذَا كَفَاهُ كَمَا قَالُوا: وَنِعْمَ الْوَكِيلُ الَّذِي تُوكَلُ إِلَيْهِ الْأُمُورُ هُوَ، فَإِنَّهُ لَا يُعْجِزُهُ أَنْ يَنْصُرَنَا عَلَيْهِمْ عَلَى قِلَّتِنَا وَكَثْرَتِهِمْ، أَوْ يُلْقِيَ الرُّعْبَ فِي قُلُوبِهِمْ، وَيَكْفِيَنَا شَرَّ بَغْيِهِمْ وَكَيْدِهِمْ- وَقَدْ كَانَ الأمر كَذَلِكَ- فَإِنَّ اللهَ تعالى أَلْقَى الرُّعْبَ فِي قَلْبِ أَبِي سُفْيَانَ وَجَيْشِهِ عَلَى كَثْرَتِهِمْ فَوَلَّوْا مُدْبِرِينَ، وَأَعَزَّ اللهُ بِذَلِكَ رَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ.
فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ أَيْ فَعَادُوا بَعْدَ خُرُوجِهِمْ عَلَى لِقَاءِ الَّذِينَ جَمَعُوا لَهُمْ وَمُنَاجَزَتِهِمُ الْقِتَالَ مُتَمَتِّعِينَ أَوْ مَصْحُوبِينَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَهِيَ السَّلَامَةُ كَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَوِ الْعَافِيَةُ كَمَا رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَالسُّدِّيِّ، أَوْ مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ.
وَأَمَّا الْفَضْلُ فَقَدْ فَسَّرُوهُ بِالرِّبْحِ فِي التِّجَارَةِ، رَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ عِيرًا مَرَّتْ فِي أَيَّامِ الْمَوْسِمِ فَاشْتَرَاهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَبِحَ مَالًا فَقَسَّمَهُ بَيْنَ أَصْحَابِهِ فَذَلِكَ الْفَضْلُ وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الْمَوْسِمَ هُوَ مَوْسِمُ بَدْرٍ الصُّغْرَى وَقَدْ تَقَدَّمَ آنِفًا خَبَرُ الْخُرُوجِ إِلَيْهَا وَأَنَّهُمُ اتَّجَرُوا فِيهَا وَرَبِحُوا، وَلَيْسَ فِي أَلْفَاظِ الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ الصُّغْرَى أَوْ بَدْرٍ الْمَوْعِدِ إِلَّا هَذِهِ الْكَلِمَةُ بِهَذَا التَّفْسِيرِ لِأَنَّ غَزْوَةَ حَمْرَاءِ الْأَسَدِ الْمُتَّصِلَةِ بِغَزْوَةِ أُحُدٍ قَدْ قِيلَ لَهُمْ فِيهَا: إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَزَادَهُمْ ذَلِكَ إِيمَانًا فَخَرَجُوا إِلَى لِقَائِهِمْ، فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ مَعْنَوِيٍّ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَلَا أَذًى، وَفَسَّرَ السُّوءَ بِالْقَتْلِ وَالْجِرَاحِ {وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللهِ} أَيْ أَعْظَمَ مَا يُرْضِيهِ وَتُسْتَحَقُّ بِهِ كَرَامَتُهُ- وَارْجِعْ إِلَى تَفْسِيرِ {أَفَمِنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللهِ} [3: 162].
إِنْ كُنْتَ نَسِيتَهُ فَمَا هُوَ بِبَعِيدٍ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ فَإِنْ كَانَ أَكْرَمَهُمْ بِذَلِكَ فِي الدُّنْيَا، فَقَدْ يُعْطِيهِمْ مَا هُوَ أَعْظَمُ وَأَكْرَمُ فِي الْعُقْبَى.
وَمِنْ مَبَاحِثِ الْبَلَاغَةِ فِي الْآيَةِ الْإِيجَازُ فِي قَوْلِهِ: {فَانْقَلَبُوا} فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ خَرَجُوا لِلِقَاءِ الْعَدُوِّ، وَأَنَّهُمْ لَمْ يَلْقَوْا كَيْدًا فَلَمْ يَلْبَثُوا أَنِ انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِيهِمْ، وَمِثْلُ هَذَا الْحَذْفِ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ الْمَذْكُورُ بِمُجَرَّدِ ذِكْرِهِ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ، كَقوله تعالى: {فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ} [26: 63] أَيْ فَضَرَبَهُ فَانْفَلَقَ. وَقوله تعالى بَعْدَ ذِكْرِ مُنَاجَاةِ مُوسَى عليه السلام لَهُ فِي أَرْضِ مَدْيَنَ وَإِرْسَالِهِ تعالى إِيَّاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ وَجَعْلِ أَخِيهِ وَزِيرًا لَهُ وَأَمْرِهِمَا بِأَنْ يُبَلِّغَا فِرْعَوْنَ رِسَالَتَهُ {قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى} [20: 49] أَيْ قَالَ فِرْعَوْنُ لَمَّا بَلَّغَاهُ الرِّسَالَةَ: إِذَا كَانَ الأمر كَمَا تَقُولَانِ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى؟ فَقَدَ فُهِمَ مِنْ هَذَا الْجَوَابِ أَنَّ مُوسَى وَهَارُونَ- عَلَيْهِمَا السَّلَامُ- صَدَعَا بِأَمْرِ رَبِّهِمَا وَذَهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ فَبَلَّغَاهُ مَا أَمَرَهُمَا اللهُ تعالى بِتَبْلِيغِهِ إِيَّاهُ.
إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ قِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالشَّيْطَانِ هُنَا شَيْطَانُ الْإِنْسِ الَّذِي غَشَّ الْمُسْلِمِينَ وَخَوَّفَهُمْ لِيُخَذِّلَهُمْ، وَاخْتُلِفَ فِي تَعْيِينِهِ فَقِيلَ هُوَ أَبُو سُفْيَانَ، فَإِنَّهُ أَرَادَ بَعْدَ أُحُدٍ أَنْ يَكُرَّ لِيَسْتَأْصِلَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ يُخَوِّفُهُمْ فِي بَدْرٍ الثَّانِيَةِ أَوِ الصُّغْرَى. وَقِيلَ هُوَ نُعَيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ الَّذِي أَرْسَلَهُ أَبُو سُفْيَانَ لِيُثَبِّطَ الْمُسْلِمِينَ عَنِ الْخُرُوجِ إِلَى بَدْرٍ الْمَوْعِدِ (وَقَدْ أَسْلَمَ نُعَيْمٌ يَوْمَ الْأَحْزَابِ) وَقِيلَ هُوَ وَفْدُ عَبْدِ الْقَيْسِ عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي سَبَبِ النُّزُولِ، وَقِيلَ بَلِ الْمُرَادُ بِهِ شَيْطَانُ الْجِنِّ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ عَلَى حَدِّ: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ} [2: 268] وَالْمَعْنَى عَلَى الْأَوَّلِ: لَيْسَ ذَلِكَ الَّذِي قَالَ لَكُمْ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ أَوْ مَنْ أَوْعَزَ إِلَيْهِ بِأَنْ يَقُولَ ذَلِكَ أَوْ مَنْ وَسْوَسَ بِهِ إِلَّا الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُكُمْ أَوْلِيَاءَهُ وَهُمْ مُشْرِكُو مَكَّةَ يُوهِمُكُمْ أَنَّهُمْ جَمْعٌ كَثِيرٌ أُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ، وَأَنَّ مِنْ مَصْلَحَتِكُمْ أَنْ تَقْعُدُوا عَنْ لِقَائِهِمْ وَتَجْبُنُوا عَنْ مُدَافَعَتِهِمْ. وَالْمَعْنَى عَلَى الثَّانِي: أَنَّ الشَّيْطَانَ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ وَلَا سُلْطَانَ لَهُ عَلَى أَوْلِيَاءِ اللهِ الْمُؤْمِنِينَ فَهُوَ عَاجِزٌ عَنْ تَخْوِيفِهِمْ. وَفِي التَّفْسِيرِ الْكَبِيرِ لِلرَّازِيِّ أنه يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ الْمُنَافِقِينَ فَيُسَوِّلُ لَهُمُ الْقُعُودَ عَنْ قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ، وَيُزَيِّنُ لَهُمْ خِذْلَانَ الْمُسْلِمِينَ. وَإِذَا صَحَّ هَذَا مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى فَإِنَّ الْإِشَارَةَ فِيهِ لَيْسَتْ جَلِيَّةً كَجَلَائِهَا فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ وَلَا الثَّانِي أيضا، وَلَا يَظْهَرُ عَلَيْهِ قوله: {فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} لِأَنَّ الْمُنَافِقِينَ لَمْ يَكُونُوا بِحَيْثُ يَخَافُ الْمُؤْمِنُونَ مِنْهُمْ فَيُنْهَوْنَ عَنْ ذَلِكَ.
أَيْ لَا تَحْفُلُوا بِقَوْلِهِمْ: فَاخْشَوْهُمْ فَتَخَافُوهُمْ بَلْ خَافُونِي أَنَا لِأَنَّكُمْ أَوْلِيَائِي وَأَنَا وَلِيُّكُمْ وَنَاصِرُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ رَاسِخِينَ فِي الإيمان قَائِمِينَ بِحُقُوقِهِ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: فِي الْآيَةِ التَّنْبِيهُ إِلَى الْمُوَازَنَةِ بَيْنَ أَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ مِنْ مُشْرِكِي مَكَّةَ وَغَيْرِهِمْ. وَبَيْنَ وَلِيِّ الْمُؤْمِنِينَ الْقَادِرِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ كَأَنَّهُ يَقُولُ: عَلَيْكُمْ أَنْ تُوَازِنُوا بَيْنَ قُوَّتِي وَقُوَّتِهِمْ، وَنُصْرَتِي وَنُصْرَتِهِمْ، فَأَنَا الَّذِي وَعَدْتُكُمُ النَّصْرَ، وَأَنَا وَلِيُّكُمْ وَنَصِيرُكُمْ مَا أَطَعْتُمُونِي، وَأَطَعْتُمْ رَسُولِي، وَفِي هَذَا الْمَقَامِ شُبْهَةٌ تَعْرِضُ لِبَعْضِهِمْ، يَقُولُونَ: إِنَّ تَكْلِيفَ عَدَمِ الْخَوْفِ مِنْ تَكْلِيفِ مَا لَا يُسْتَطَاعُ، وَلَا يَدْخُلُ فِي الْوُسْعِ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا عَلِمَ أَنَّ الْعَدَدَ الْكَثِيرَ ذَا الْعُدَدِ الْعَظِيمَةِ يُرِيدُ أَنْ يُوَاثِبَهُ وَيُنْزِلَ بِهِ الْعَذَابَ بِأَنْ رَآهُ، أَوْ سَمِعَ بِاسْتِعْدَادِهِ مِنَ الثِّقَاتِ، فَإِنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ أَلَّا يَخَافَهُ، فَكَانَ الظَّاهِرُ أَنْ يُؤْمَرُوا بِإِكْرَاهِ النَّفْسِ عَلَى الْمُقَاوَمَةِ، وَالْمُدَافَعَةِ مَعَ الْخَوْفِ لَا أَنْ يُنْهَوْا عَنِ الْخَوْفِ. وَالْجَوَابُ: أَنَّ هَذِهِ الشُّبْهَةَ حُجَّةُ الْجُبَنَاءِ فَهِيَ لَا تَطُوفُ إِلَّا فِي خَيَالِ الْجَبَانِ؛ فَإِنَّ أَعْمَالَ النَّفْسِ مِنَ الْخَوْفِ، وَالْحُزْنِ، وَالْفَرَحِ يَتَرَاءَى أَنَّهَا اضْطِرَارِيَّةٌ، وَأَنَّ آثَارَهَا كَائِنَةٌ لَا مَحَالَةَ مَهْمَا حَدَثَ سَبَبُهَا، وَالْحَقِيقَةُ أَنَّ ذَلِكَ اخْتِيَارِيٌّ مِنْ وَجْهَيْنِ: (أَحَدُهُمَا) أَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ تَأْتِي بِالْعَادَةِ وَالْمُزَاوَلَةِ، وَلِذَلِكَ تَخْتَلِفُ الشُّعُوبُ وَالْأَجْيَالُ، فَمَنِ اعْتَادَ الْإِحْجَامَ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَى الدِّفَاعِ يَصِيرُ جَبَانًا، وَالْعَادَاتُ خَاضِعَةٌ لِلِاخْتِيَارِ بِالتَّرْبِيَةِ وَالتَّمْرِينِ، فَفِي اسْتِطَاعَةِ الْإِنْسَانِ أَنْ يُقَاوِمَ أَسْبَابَ الْخَوْفِ، وَيُعَوِّدَ نَفْسَهُ الِاسْتِهَانَةَ بِهَا، (وَثَانِيهِمَا) أَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ إِذَا حَدَثَتْ بِأَسْبَابِهَا فَالْإِنْسَانُ مُخْتَارٌ فِي الْإِسْلَاسِ لَهَا، وَالِاسْتِرْسَالِ مَعَهَا حَتَّى يَتَمَكَّنَ أَثَرُهَا فِي النَّفْسِ، وَتَتَجَسَّمَ صُورَتُهَا فِي الْخَيَالِ، وَمُخْتَارٌ فِي ضِدِّ ذَلِكَ، وَهُوَ مُغَالَبَتُهَا، وَالتَّعَمُّلُ فِي صَرْفِهَا وَشُغْلُ النَّفْسِ بِمَا يُضَادُّهَا، وَيَذْهَبُ بِأَثَرِهَا، أَوْ يَتَبَدَّلُ بِهِ أَثَرًا آخَرَ مُنَاقِضًا لَهُ، فَهَذَا الأمر الِاخْتِيَارِيُّ هُوَ مَنَاطُ التَّكْلِيفِ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: إِذَا عَرَضَتْ لَكُمْ أَسْبَابُ الْخَوْفِ فَاسْتَحْضِرُوا فِي نُفُوسِكُمْ قُدْرَةَ اللهِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، وَكَوْنَهُ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ، وَتَذَكَّرُوا وَعْدَهُ بِنَصْرِكُمْ، وَإِظْهَارِ دِينِكُمْ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَأَنَّ الْحَقَّ يَدْمَغُ الْبَاطِلَ، فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ، وَتَذَكَّرُوا قوله: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [2: 249] ثُمَّ خُذُوا أُهْبَتَكُمْ، وَتَوَكَّلُوا عَلَى رَبِّكُمْ، فَإِنَّهُ لَا يَدَعُ لِخَوْفِ غَيْرِهِ مَكَانًا فِي قُلُوبِكُمْ اهـ. بِتَصَرُّفٍ مِنْهُ، إِنَّ مَقُولَةَ: كَأَنَّهُ يَقُولُ مِنْ عِنْدِي لِأَنَّنِي لَمْ أَكْتُبْ مَا قَالَهُ- رَحِمَهُ اللهُ- فِيهِ، وَإِنَّمَا تَرَكْتُ لَهُ بَيَاضًا لِأَكْتُبَهُ فِي وَقْتِ الْفَرَاغِ، ثُمَّ نَسِيتُهُ، وَمُرَادُهُ أَنَّ الْوَجْهَ الْأَوَّلَ إِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الِاخْتِيَارُ فِي التَّرْبِيَةِ التَّدْرِيجِيَّةِ، وَالثَّانِي يَتَعَلَّقُ بِهِ الِاخْتِيَارُ فَوْرًا فِي كُلِّ وَقْتٍ. وَقَدْ قُلْتُ فِي هَذَا الْمَعْنَى شِعْرًا فِي الْحُزْنِ مِنْ مَرْثِيَّةٍ نَظَمْتُهَا فِي أَيَّامِ التَّحْصِيلِ وَهُوَ:
أَطَبِيعَةُ، ذَا الْحُزْنُ لَيْسَ يَشِذُّ عَنْ نَامُوسِهِ فَرْدٌ مِنَ الْأَفْرَادِ أَمْ ذَاكَ مِمَّا أَوْجَبَتْهُ شَرَائِعُ الْأَ (م) دْيَانِ مِنْ هُدًى لَنَا وَرَشَادِ أَمْ ذَلِكَ الْعَقْلُ السَّلِيمُ قَضَى عَلَى كُلِّ الشُّعُوبِ بِهَذِهِ الْأَصْفَادِ كَلَّا، فَلَيْسَ لِأَمْرٍ ضَرْبَةُ لَازِبٍ لَكِنَّهُ ضَرْبٌ مِنَ الْمُعْتَادِ فَاخْلَعْ سَرَابِيلَ الْعَوَائِدِ إِنْ تَكُنْ لَيْسَتْ بِنَهْجِ الْعَقْلِ ذَاتَ سَدَادِ وَتَقَلَّدِ الْحَزْمَ الشَّرِيفَ كَصَارِمٍ كَيْمَا تُنَافِحُ جَيْشَهَا بِجِهَادِ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ قوله تعالى إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ يُفِيدُ وُجُوبَ تَوْثِيقِ الإيمان بِاللهِ فِي الْقَلْبِ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ؛ لِأَنَّ تِلْكَ الْخَوَاطِرَ، وَالْهَوَاجِسَ الَّتِي تُحْدِثُ الْخَوْفَ مِنْ أَوْلِيَاءِ الشَّيْطَأن لا يَمْحُوهَا مِنْ لَوْحِ الْقَلْبِ إِلَّا الإيمان الصَّحِيحُ الثَّابِتُ، وَفِي قوله: {إِنْ كُنْتُمْ} إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ إِيمَانَ مَنْ يُرَجِّحُ الْخَوْفَ مِنْ أَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ عَلَى الْخَوْفِ مِنَ اللهِ تعالى مَشْكُوكٌ فِيهِ.
أَقُولُ: فَلْيَزِنْ كُلُّ مُؤْمِنٍ نَفْسَهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَيُقَارِنْ بَيْنَ عَمَلِهِ، وَعَمَلِ الصَّحَابَةِ الْكِرَامِ وَبَيْنَ إِيمَانِهِ، وَإِيمَانِهِمْ، لِكَيْلَا يَكُونَ مِنَ الْمَغْرُورِينَ.